recent
أخبار ساخنة

إقتراح حكيم

عزت عبد العزيز حجازي
الصفحة الرئيسية


 


نجلس على الرمال، فتتوقف الضباع، الضبع الأمامي مُرتفع القوائم، وإحدى أُذنيه أطول قليلاً من الأخري.

يقترب الضبع الأول منا، رُبما لثلاثين خطوة، ثم يقف بشئ من التحدي في وضعية الحذر والتربص، وينتظر آخرين أبعد منه بقليل، أما الرابع. فلا وجود له، وفي رُعبي (أين اختفى الرابع؟). وأرتعب أكثر عندما ألتفت، وأرى سرباً آخر من الضباع يلتف من بعيد حول شجيرات البطيخ، وتحت الغشاوة الضبابية، أرى بوضوح أربعة ضباع تلتف حولنا بسرعة من الجانب الآخر.

(هالكون لا محالة). يهمس بها الجندي عواد، فأتشهد بخفوت، وأحس برعب شديد، ولكنه رعب مكبوت، فلا يجب على القائد أن يظهر رعبه لجنوده، ولكن. أيطول الأمد؟.

أعزم على طرد الضباع بالرصاص، فلا بديل آخر، فأقوم برفع سير البندقية، وسحب الترباس، فينهرني العجوز: أمجنون أنت؟. تمهل، ماذا تُريد أن تفعل؟. ألا ترى أنها قبيلة من الضباع الآن؟. كما وأن إطلاق النار هنا، في كنف العدو، قد يعني الإنتحار؟. وآنئذ، أتأكد أن العجوز، لا زال يملك بقية من عقل يفكر، فأتراجع. أسأله: ولكن، ما العمل؟.

فيتدخل الجندي شريف: عندي اقتراح يا افندم.

-هه؟.

-نسير بحذر إلى الأمام.

-وماذا في ذلك؟.

-يبدو يا افندم أن الضباع مثلنا خائفة، ولن تهاجم، إلا إذا هاجمناها.

    -جميل، ولكن...

    -إعتمد على الله يا افندم، ولن نخسر شيئاً.

    -ماذا تقصد، بلن نخسر شيئاً؟.

    -يا افندم، إن قدر الله لنا الموت، فلن توقف ذلك أي قوة على الأرض، ونحن لن نهاجم الضباع، إلا إذا هاجمتنا، فلتجرب اقتراحي يا افندم.

كان اقتراحاً حكيماً، وإن كانت به مخاطرة، لذا، وبتنهيدة حارة: توكلنا على الله.

وبالفعل، نسير إلى الأمام لمسافة كبيرة، تتبعنا الضباع، وفجأة، تتجاوزنا من كلتا الجهتين، ثم تقف، وكأنها تنتظر ما سوف يفعله هؤلاء البؤساء الحمقى، ثم تأخذ بعض الوقت، وهى تركض وراءنا بتكاسُل، رائدها ذي الأذن المنتصبة، إلا أن الرائد يتوقف فجأة، بعد حوالي 200 متراً، نابشاً في الرمال، فيتوقف السرب كله، يحذو حذو رائده. ولكننا نواصل السير اللاهث المتدحرج إلى الأمام، ومن حين لحين، ننظر إلى الخلف، بحثاً عن الضباع التي اكتفت بالجثة المطمورة في الرمال كوليمة مضمونة، تغنيها عن مخاطر الإشتباك مع بني الإنسان.

في اتجاه الغرب الأخضر، وعلى بُعد عدة كيلو مترات، ننبطح على الرمال، في حضن كثيب رملي، منهكي القوى، جوعى، عطشى، فنتناول بعضاً من ثمار البطيخ، وبعد عدة ساعات، نسير من جديد، ولا نتوقف إلا عندما نلمح على مرمي البصر ضب في حجم التمساح الصغير، ذي قوائم أمامية طويلة، فأنتزع بلا تفكير بندقيتي، محركاً ذراع الأمان،

ومطلقاً النار، فيهجم الجندي عواد على البندقية، يجذبها من يدي: الآن، سيسمعنا اليهود يا افندم، الآن سيسمعنا اليهود، ويأتوا لقتلنا. فيجذبه زميله شريف، يحاول تهدئته، فالنار قد أطلقت، وانتهى الأمر.

أؤمن على البندقية بكل هدوء، وأضعها بجانبي، ثم أنهض لأرى الغنيمة الممددة على الأرض، وقد تناثرت رأسها إلى أشلاء، ثم أرفعها وأعود بها، ألقيها بين جنودي ممددة. يقول الجندي شريف، وهو يزيح بعفوية خصلة شعر تهدلت على وجهه: أسلخه يا افندم. فأمد يدي بالسونكي، وفي الحال، يدب النشاط، ونتفق على شي الضب، ثم مغادرة المكان فوراً، وبعدها نجِد في البحث عن بعض الشجيرات الجافة، ولا يزال الجندي شريف يكافح لعزل جلد الضب عن لحمه.

أُخرج رصاصة من خزينة البندقية، وأنزع المقذوف عن الرصاصة، ساكباً البارود على الأعواد الجافة، ومشعلاً عود ثقاب، وبعدها ألقيه على البارود، فترتفع ألسنة اللهب، وأنا ألقي فيها اللحم الحيواني، وبعد قليل. تتضوع في تداخل الضوء والظل روائح الدهن والشواء تصك أنوفنا.

 

 من أجواء روايتي "الأنياب الباردة" الصادرة عن دار نشر "ديوان العرب" عام 2024

author-img
عزت عبد العزيز حجازي

تعليقات

ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق
    google-playkhamsatmostaqltradent