recent
أخبار ساخنة

مدينة الأسياد

عزت عبد العزيز حجازي
الصفحة الرئيسية

 


وبالفعل. يعزم أبي وكذلك أمي على عدم الإنتقال من دارنا وقريتنا أبداً، والإستقرار في أي مكان آخر، ولو أخبرهما ملاك من السماء بأن هناك في الطريق زلزال، أو إعصار، أو فيضان للنيل وشيك. بل أنا وحدي الذي انتقلت بالقطار من القرية إلى مدينة الأسياد، وهو حلم قديم لي كلما رأيت القطار وأنا في حقول القطن، ورأيت كذلك خالي الصرماتي وهو أت لزيارتنا من حين لحين، هو وزوجته وأولاده، وهُم في فاخر الثياب، يرتدون الأحذية اللامعة، وترتسم البهجة على وجوههم وهم يهشون الذباب عنها، ولا يتركونه كصبية القرية يرعى كما يحلو له.
يجئ أبي بوجهه العابث الرزين، وطرف عباءته االرمادية لاصقة بطرف جلباب أمي الأسود الموبر، فيصدر عنه حفيف حميم إلى قلبي يدغدغ كل حواسي. رائحة التوته تملأ المكان، والفلاحون يهللون للزائرين في احتفالية، وتمرق بعض المواشي أمامهم في تبختر، وقد بدأ خوارها يعلو، تدوس بحوافرها ورق التوت اليابس المتساقط من شجرة توت دار خالتو حميده المطلة بنصفها على الدرب الترابي، وأنا أتلصص، من وراء عباءة أبي إلى عيون أولاد خالو المصوبة نحوي، أبي يهش أولاد القرية في أنفة، ثم يشدنا إلى الداخل، تجئ ساعة العصاري فأختلس خلوة وأخرج بأولاد خالو من باب الدار، نفر مع العديد من صبية القرية، مخترقين الدرب الرفيع الترابي، وأنا أمسك بعود حطب، وأجري وراء الجميع، مُتظاهراً بأني أهشهم ونحن نخترق الدرب الترابي الواسع المؤدي إلى جسر الترعة، غير مُبال بحواديت جدتي المنقذة عن جنية الماء الجسناء المسحورة، ذات الشعر الأصفر والعينان الزرقاوتين، وعن غول الفيافي والقفار، وعن نداهات الحقول، وعن ابو رجل مسلوخة الذي يقطن السواقي المهجورة، وعن مساخيط الحواديت، وشيخ بحر السندباد، وغيرها كثير، وفور أن نصل إلى الترعة. أبحث عن صبية القرية، فأجدهُم بداخلها، فروا بثيابهم يحتمون بماءها، ويبحثون عن الأسماك الصغيرة والقواقع التي يصطادونها بجلاليبهم، ثم يفرون معنا إلى الديار مُشمرين ثيابهم، ومخلفين أمامنا شبورة من الغبار الكاسي تحجب عني وعن أولاد خالو رؤيتهم، ولا تظهر غير أقدامهم الصغيرة المبتلة، تفر من سخونة الأرض. وحين يجئ صبية القرية بعد العشية، أنزوي معهم أنا وأولاد خالو في ركن من الدرب الترابي الرفيع يجاور الطاحونة المهجورة، إذ نعقد اتفاقاً، بحيث ينصبون لي في الصباح المرجيحة الخشبية فوق توتة خالتو حميده، في مقابل منحهم ما تيسر من ثمار التوت. ما أجمل هذا وأنا أعلو في الهواء، والصبية وأولاد خالو، كالقطط الأليفة المطيعة يتسابقون بدفعي بشدة، وحالما ينتهي الشق الأول من صفقتنا، أملأ جيوبهم بحبات التوت المخزون بجيب جلبابي، فتكتمل بذلك صفقتنا، فيجرون مهللين فرحين، وتصيح بعض الصبية المختبئين وراء سور الطاحونة المهجورة، وقد امتلأ صوتهم بالغضب، يطلبون توتاً، ثم يجرون لاحقين برفقائهم، لكن بدون جدوى، فيلتفون حولي، فأختال في مشيتي كالطاووس، وأنظر إلى جسر الترعة الترابي، وقد فروا إلى الحقول يبحثون عن دود الأرض، يكون طعماً لسنارتي. هكذا هى الحياة، تبادل منافع. وتأتي العشية، وتبتلع معها كل صوت، وتنفلت عنها همهمات أحاديث من أسطح الدور الصغيرة، ويهرب الصبية من ديارهم، يتسابقون في تقديم الخدمات لي ولأولاد خالو، وتصيح خالتو حميده حالما تسمعنا: إبعدوا عن التوته يا اولاد الرفضي.

كل ذلك وأولاد خالو ينظرون إلينا في عجب، ولا يشاركون كثيراً في لعبنا ومرحنا.

كان انتقالي لمدينة الأسياد، بالرغم من معارضة أمي وأبي في البداية، وامتثالهما في النهاية تحت إصراري على الإلتحاق بالكلية الحربية، أنا وصديقي مينا، وقبولنا بها بعد توسط باشا القرية الذي يحترم أبي كثيراً، ويوقره، ويقدمه دائما في الحديث عند طلبه لأمر ما، ولا يمل من وصفه بالشيخ الطيب حامل القرآن، وقد كُنت حريصاً كل الحرص على أن أنفذ وصية أمي وأبي بحمل الحجاب الورقي في جيبي طوال الوقت، لعل وعسى يكون كما أخبر الشيخ العارف بالله، حرزاً لي من شياطين الأرض والسماء، وكذلك من جنيات مدينة الأسياد على حد وصف أمي، والتي اخترت المكوث في ركن منها بعد انتهاء دراستي العسكرية، والإنتقال مع نحمدو إليها في زفة كزفة قطر الندى، بعكس صديقي مينا الذي اختار مع زوجته مريم الإقامة الدائمة بالقرية، ما سبب لي الكثير من حنق أمي وأبي وأختاي، لعدم تقليدي إياه، وبمناسبة الحجاب ومقاومته الشياطين، واعتقادي الجازم في هذا. حدث مرة قبل زواجي بقليل، أن قال لي مروان ابن عمي وأخو نحمدو، أثناء إحدى زياراته التسويقية في مدينة الأسياد، وقبل زواجه بعدة شهور من أختي علياء، وزواج أخيه محمود كذلك من أختي فاطمه في ليلة واحدة: أنت جن مصوَّر قديم، ومهتم مثلي بالأحجبة والعفاريت، والجن والشياطين، وتؤمن بوجودها، وتخشاها، وكُنت تود دوماً، ومن باب الفضول، أن تقف على الحقيقة ذات يوم، أليس كذلك؟.\\من روايتي "عودة الموتى".

author-img
عزت عبد العزيز حجازي

تعليقات

ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق
    google-playkhamsatmostaqltradent