recent
أخبار ساخنة

التميمه

عزت عبد العزيز حجازي
الصفحة الرئيسية

 


ألاحظ كثيراً أن صاحب الراديو، لا يكف عن ترديد لا إله إلا الله!، عندما يعلق على كل ما يسمعه، خيراً كان، أم شراً، يلونها حسب المناسبة، يقولها ضاحكاً، سعيداً، معبراً عن رضاه، أو عابساً، حزيناً، معبراً عن غضبه، بل إن انفعالات مثل الغضب والحزن والفرح لا تزوره إلا لماماً، فهو يمشي كأنه غائب عن الدنيا، لكنه يقولها إذا طُلِب منه رأي، وعادة لا أحد يطلبُه، إلا إذا كان مازحاً، لا يضيف إليها شيئاً، ولا ينقص منها شيئاً، وكأنها تعليق ناجز، مُختصر، على كل المواقف في الحياة، وتحمل فلسفة عميقة، لم ينتبه إليها أحد حتى الآن، ويبدو أن صاحب الراديو يأت إلى المجالس التي تُعقد بالمبيت، يستمع بفضول إلى الأحاديث التي تدور، ولا يعلق إلا نادراً، مع الحرص على قول تميمته تلك قبل أي تعليق، أو حديث، وهأنذا، أعقب بدهشة، وهو يقول في معرض حديث عابر: لا إله إلا الله، ليتها تقوم!.

-ما هى يا صاحب الراديو؟!.

، يضرب كفاً بكف، ثم: لا إله إلا الله، إنها الحرب!.

، ثم كمن يحدث نفسه: لا إله إلا الله، على الأقل نجد شئ حقيقي نقوم به، قال مراقبه قال!.

، ينتفض عيّد أو كبير المراقبين وهذا هو لقبه، باعتباره حكمدار المراقبين، أي أقدم فرد بها، وهو ينحي مصحفه جانباً، ثم بغضب: والله، ثم والله، وبعقد الهاء، إن مخك ولا مخ جامع الحطب، تلك المراقبه يا بجَم، التي لا تعجبك، هى التي تقوم بحماية سماء الوطن من الإختراق، وعدم تكرار ما حدث لنا في سبعه وستين، يا ثور!.

، يفغر جامع الحطب فاه، وببطء، وعينان رماديتان، وحشيتان، كالسحب الخفيفة، وشعر نافر، غير ممشط دوماً: الحمد لله، لم أت بشئ من عندي، هناك بجم وثور وجحش غيري!.

، ثم ببلاهة: لا إله إلا الله مقلدا ًصاحب الراديو، لا أفهم، ماذا تقصد يا كبير المراقبين؟!.

، بابتسامة عريضة: دعك يا جامع الحطب من الفهم، ووجع دماغه، فالفهم له خلق إصطفاهم الله!.

، أعقب بحماس متقد: على رأي الشاعر: ذو العقل يشقي في النعيم بعقله / وأخو الجهالة في الشقاوة ينعمُ!. 

، ببلاهة، ينظر لي جامع الحطب: ماذا تقصد يا سعيد؟!.

لا، لا شئ يا أيها الجندي التحفه، إني فقط أدافع عنك بهذا البيت من الشعر!.

، وسعيد هذا هو إسمي الحقيقي، وليس لقباً، حيث لم أكتسب بعد أي ألقاب لحداثة عهدي بالمكان، والآن، وبالتفاتة إلى مشهد نداء استغاثة أبي وزميله الجنوبي باللاسلكي، فور مشاهدتهما لسرب الطيران الإسرائيلي المنخفض جداً، وهو ينطلق إلى غربنا الأخضر، فأقول بآسى: ليت تلك النقاط كانت موجوده على كل حدودنا، قبل 5 يوليو الحزين، ما كان قد حدث ما حدث!.

، صاحب الراديو باستغراب طفولي: لا إله إلا الله، سعيد مُخُه خف؟!.

، الصول مصطفى في حنق ممرور: لك حق، فأنت بهيم، وثور، وجحش، وحمار، وبغل!.

، ثم يُردف، ضاغطاً على مخارج حروفه: يا صرّمَة، فيشبعة وستين، طيران إسرائيل دخل ضربنا، وهو قريب جداً من سطح الأرض، أي واطئ، ياواطي، ومن طبيعة الرادارات، ألا ترصُد العالي، فاهم يا تنبل؟! فاهم يا ثور؟!.

، جامع الحطب بعفوية: ولماذا لم ترصده؟!.

، يبتلع الصول عدة رشفات من ماء القلة مشطوفة الرقبة، وأنا أتابع تفاحة أدم الصاعدة النازلة بسرعة في عنقه، وبإشارة من ذراعه: أنا على شفا الشلل من هذا الشبل، أرجوكُم إنقذوني من هذا المخبول!. 

، ينضم كبير المراقبين: يا ابني الرادرات تكوينها هكذا، صنعوها هكذا!.

، بتحفُز وبريق ماكر من عينيه العسليتين: ولكن، يا حضرة الصول، مالي أراك منفعلاً هكذا؟!، هل تظن بأنني مثل الحمار الحصاوي؟!.

، بقهقهة: لا، العفو، إنك الحمار الحصاوي ذاته، وإن كُنت أجزم بأنك لا تعلم ما هو الحمار الحصاوي، لذا، سالقي ما تيسر لعلك تفهم!.

، ثم يواصل الصول: أنصتوا يا أبنائي إلى تلك العجيبتين:، يوم عُرس أبوه وأمه رقص على حمار حصاوي سبعة أيام، وسبع ليال، إنجرح ضهر الحمار، نصحُه أهل الخير بطحن نوى البلح، نسي نواية سليمة في ضهر الحمار، فنبتت وصارت نخلة، جاء أولاد كثيرون ورموها بالطوب والزلط، فصارت جزيرة، صعد إليها هو وأبيه وبذرا فيها سمسماً، ثم غيرا رأيهما وجمعا السمسم، سمسماية، سمسماية، وبذراها بطيخ، البطيخ كبر، الأب أتى بواحدة يشطرها بالسكين، وقعت السكينة داخل البطيخة، خلع ملابسه ونزل يبحث عنها، فجأة، رأى واحدة جميلة، وجهها مثل نور القمر، نام معها، خلف ولد خائب، ترك الدنيا وراح ينجح في "هِوْ" الصحراء، فسقط داخل نقطة مراقبة كنقطتنا فيها جنود مثلكُم أغلب من الغُلب، الجنود جعلوا منه جامع للحطب!، فإذا به يزرع نبتة ريحان، من أجل أن تظلل النبتة الدنيا. النبتة رمت ورق ناشف أصفر، أخذ الورق، وأخذ يبكي إلى جواره كالولايا، فإذا بأبيه:"إلى متى هذه الهلوسات والشطحات يا كلب؟!، قم وابحث عن كومة من الحطب، واستدفئ عليها,, واسألها أن تخلصك من غبائك"!.

، ننخرط في ضحك عفي، ويعلو التصفيق والضحكات، عدا شلبي الذي يفغر فاه، وينظر ببلاهة، فيواصل الصول: أنصتوا إلى العجيبة الثانية: غاوي الغناوي، وصوته مُنكر، القرد سمعه دماغه وجعُه، قعد يفكر، الدم فار، وفي قلبه نار، ع الشر قدر، قال للحصاوي، صوتك وحش، جتك القرف، رد الحصاوي، قرد عجوز خدُه الخرف، القرد قام، عمال بيُفرُك ودمُه شاط، فرح الحصاوي وضحك كتير، آخر انبساط، القرد قالُُه، إياك تفكر إني ضعيف، رد الحصاوي، جتك البلا،  شبَه الكنيف، القرد نط، على الضهر حط، وقعد يقرَّص، فز الحصاوي، خدُه الفزع، وقعد يرفس، القرد نط، في الرقبة عض، غمى العينين، حار الحصاوي، معرفش يجري يروح لفين، وفي النهاية، القرد سابُه وراح ع الشجر، بكى الحصاوي وقالُه قرد ظالم، القرد قالُه، ياما نصحتك، ياما نهيتك، رد الحصاوي:"بُكره هجيبك"، القرد قال:"معادنا كُل صباح يشقشق"، سابُه الحصاوي وراح بعيد، قعد ينهق!.

، ننغمس من جديد في ضحك طازج، عفي، عدا جامع الحطب بالطبع الذي يبادره الصول:

نهق بقه، واللا أقول لك، رفَس أحسن!.

، يصمت الصول قليلاً، ثم: عامة يا جامع الحطب، إن رغبت في نفي كُل الصفات البذيئة عنك، ولا تُصبح مثلك مثل الحمار الحصاوي، أجب بذاتك عن سؤالك السابق!.

، يعتدل جامع الحطب على فرشته، ثم: قصدك أنهم أقاموا تلك النقاط لرصد العالي والمنخفض، بديلاً عن الرادارات؟!.

 -تماااام!.

، وهو يهرش في جبهته الضيقة: فلماذا إذن يا حضرة الصول لم ترصد الرادارات طيران إسرائيل في سبعه وستين؟!.

 ، يضرب الصول كفاً بكف، ثم: يا نهار أسود من قرن الخروب، لا، لن أرُد عليك، فالضرب في الميت حرام!.

، الصول في طريقه إلى الخارج، وبقهقهة لها صدى مُخيف يهنز لها كرشه هذه المرة:

أغادر أفضل، قبل أن أرتكب جريمة قتل، لي أولاد وزوجه!.

،أعاجله: يا ريس، دعك من جامع الحطب هذا، وقُل لي، هل إشتركت في الحرب؟!.

 ، تختفي قهقهات الصول، وتطوف بعينيه سحب داكنة: أي حرب يا ولدي؟!.

-حرب سبعه وستين يا افندم!.

-نعم، وكان في شرم الشيخ!.

-إذن، إحكي لنا يا افندم، لعلنا نستفيد!.

، يدخل الصول من جديد، يتربع يجلبابه البُني على الحصيرة الخشنة، ونحن من حوله، ولا يفته أن يشعل سيجارة، والمصباح يلقي على وجهه ضوءاً ضعيفاً، شفيفاً، فيزداد بريق عينيه، وتتهدل ملامحه في كدر عميق: كنت أيامها متطوع صغير، وكُنت أعمل على مدفع مضاد للطائرات، من ضمن أربع مدافع بالموقع، بين كل مدفع وآخر مسافة كيلو متر،!،،

، من جملته الأولى، بدا الصول وكأنه يقرأ من كتاب مفتوح، محت الأيام بعض حروفه، وبدت عيناه تشخصان بعيداً حيناً، وحيناً آخر تتجولان على صفحات وجوهنا، بلا تركيز:، في اليوم الأول، حاول المشاه الإسرائيلي الهجوم على مواقع المدفعية، بالعربات المصفحة والدبابات، بعد ضرب كثيف ومركز من المدفعية، لكن بمجرد أن اقتربت الدبابات والعربات فتحنا النار، فدمرنا بعضها، والباقي هرب، ثم أتي الطيران الإسرائيلي، ودك كُل المواقع، التي تحولت إلى شُعلة نار، والطيار الإسرائيلي وقتها كان جباراً، مفترياً، كما لو كان يود أن يضرب المدفع بجناحه، فالسماء قد خلت له ليفعل ما يريد، وفي اليوم التالي، جاء بلا مقاومة تُذكر الإسرائيليون بالدبابات والسيارات المصفحة، فكُل المدافع قصفت، وكُل دشم الذخيرة إنفجرت، ومن بقى حياً منا وقع في الأسر، ولمن لا يدري معنى الأسر، أقول له، لا حقوق لك، لا أمل، لا حياة، حياتك تنتهىَ في ثانية واحدة، لمجرد أن شكلك لا يعجب أسيرك، إذا شكل الأسرى مشكلة في النقل، يكون قرار التخلص منهم برميهم بالرصاص، وهو الحل الأسهل، حياة الأسر لدى العدو الإسرائيلي يا أبنائي هى حياة الدقيقة، بدقيقة، توقع ضربك بالنار في كُل لحظة، دون سبب، ودون مبرر،!.

، يتنهد الصول، يمد يده إلى القلة، يرتشف عدة قطرات من الماء، ثم:،المهم، قسمونا مجموعات، وكلفونا بدفن شهدائنا، آسرينا كانوا يهوداً من اليمن، لهُم شعور طويلة متهدلة على الأكتاف، وأنوف معقوفة كالسنانير، تبرق عيونهم ببريق الوحشية، بأيديهم بنادق مثبت عليها السناكي، موجهة دوماً إلى بطوننا، وهناك كلاباً ضالة تنهش زملاؤنا الشهداء، وبعد ذلك، أخذونا في سيارات متهالكة إلى إسرائيل، وفي كُل مستعمرة يتوقفوا، حيث تخرج النسوة والأطفال يتفرجون علينا، ويبصقون في وجوهنا، حقداً وكراهية، عشت في الأسر بلا وعي، على هامش الحياة والدنيا والأمل والغد، إلى أن تمكنت وأخرين من الهرب، والإختفاء في الصحراء، وبمساعدة بعض البدو، عاد من بقي حياً منا إلى القاهرة،!.

، يتنهد الصول مرة أخرى، ثم، وهو ينظر إلى جامع الحطب: ورائي يا ثور، وأحضر معك البندقية والمنقد والقُله!.

، يضع كبير المراقبين المصحف في حقيبته، يتمدد من جديد  تحت غطاء سريره، أبادره:سمعت أن إسرائيل تسمي نقاطنا بالنقاط السوداء!. 

، بتثاؤب: يا سيدي، تسميها النقاط السوداء، تسميها النقاط الزرقاء، تسميها بأي لون، المهم أن تظل للأبد مثل الشوكه في ظهرها وحلقها!.

، والآن، الليل أخرس، معصوب العينين، ومعه صرت أتثائب حتى تطقطق عظام الفكين، وها هو سلطان النوم يطرق باب عيني، كزائر غريب، ثقيل، لا أرغبه!.

 

 من مجموعتي القصصية "عريت جولدا"

 

author-img
عزت عبد العزيز حجازي

تعليقات

ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق
    google-playkhamsatmostaqltradent