recent
أخبار ساخنة

الحفرة

عزت عبد العزيز جازي
الصفحة الرئيسية


السكون بكّر؛ والفراغ أسود؛ والوادي نائم؛ والنسمات خجلة؛ والشمس واهنة؛ ولكن؛ صدره يرتفع في شهيق؛ ينتابه شعورا؛ لا سبيل إلى مقاومته بخطر ما وشيك؛ والدرعي يرهف السمع لصوت غير عادي؛ قادم من جهات عديدة وراء الجبل؛ يشبه الهدير؛ أو الأزيز؛ مستمراً في دأب؛ تصاحبه اهتزازات كالزلازل الخفيفة؛ غير المحسوسة تحت الأقدام؛ يقول لصديقه؛ إن كان يسمع شيئاً.

يرهف الحلبي أذنيه؛ وعيناه تتحركان كهوائي رادار؛ يؤكد شكوك صديقه.

يتفاجأ الصديقان بعدد من الدبابات يتجه من الوادي؛ قاصداً الحي؛ يدخل من جميع الإتجاهات؛ وفجأة؛ أصوات شظايا تصفر؛ غاضبة كالسيوف؛ وطائرة تحوم؛ تطلق صواريخ كالسهام النارية؛ تمهيداً لدخول الدبابات؛ ولولا أن أرض الحيّ؛ هشة؛ رخوة؛ تبتلع أكثر الصواريخ؛ وشظاياها؛ لأبيد كل ما تبقى من أحياء: هكذا هى الأرض صديقة الإنسان الأبدية.

تدير إحدى الدبابات برجها؛ يخرج وميض من فوهة مدفعها؛ صفير دانة يشق الهواء؛ يصرخ الحلبي؛ يتدحرج وراء جدار مهدم؛ يصيح: رأسي؛ رأسي؛ رأسي.

ينطلق الدرعي إلى جوار صديقه؛ مذعوراً؛ ينظر في رأسه؛ فيجده سليماً تماماً: لقد مرت الدانة من فوق رأسه مباشرة؛ ونظراً لسخونتها الشديدة؛ وسرعتها؛ فقد خلخلت الهواء فوق رأسه؛ وضغطت الهواء عليها من أعلى إلى أسفل؛ فشعر كأنها خلعت رأسه من بين كتفيه؛ وجعلته يتحسس جسمه؛ غير مصدق.

يشغل الصديقان مدفع هاون تجاه طابور الدبابات؛ صحيح أنهما لا يتمكنا منه بصورة مؤكدة؛ إلا أنهما على الأقل يعرقلا سيره؛ أو مواصلة تقدمه إلى داخل جهتهما؛ وها هو يبتعد في نصف دورة؛ حتى يخفيه الغبار الكثيف؛ مطلقاً نيرانه في جميع الإتجاهات؛ وفي لحظات؛ تعود الطائرة لتدك الحي دكاً؛ ليسري ظلاً كئيباً من الوحشة؛ ويتحول الجو إلى اللون الأصفر؛ وكأن الحي ضرِب بالغازات السامة؛ وهو لم يضرب بها بعد؛ لكن الحجم الضخم من القنابل الذي ألقى عليه؛ كل ذلك؛ يلون الجو باللون الأصفر؛ مع رائحة نفاذة للبارود.

بلا شعور؛ يسابق الدرعي الزمن والعمر؛ للوصول إلى تأوهات تحت أنقاض منزل مهدم؛ لكنه يعود مرة أخرى على صرخة صديقه؛ المصاب بدانة مباشرة من دبابة تسقطه صريعاً؛ ممزقاً إلى أشلاء.

بجوار الشهيد؛ تتجمد الدماء في عروق الدرعي؛ يفقد الإحساس بالزمن؛ بالرهبة؛ الخوف يتلاشى؛ فلا يمكن أن يكون ما يمر به حقيقة؛ لابد أنه يحلم؛ حلماً كئيباً؛ سخيفاً؛ أو أنه يشاهد فيلماً سينمائياً من أفلام الحرب؛ أبطاله يمثلون أمامه؛ أما هو؛ فيشاركهم مشاركة وجدانية فقط؛ ولكن؛ الإحساس بالإنفصام عما حوله يعطيه القدرة على الحركة؛ كأنه كومبارس في المأساة؛ وصديقه إلى جواره لا يتكلم؛ تتعلق عيناه بذراع دامية؛ بنصف رأس؛ بفك علوي؛ بأسنان؛ بسلسلة وصليب مدميان؛ وفي الجو رائحة بارود تهب كالصفعات؛ في الوقت الذي لا تمتان فيه عينا الدرعي بصلة إلى البكاء؛ الحزن؛ الخوف؛ بل الصدمة؛ وبعد قليل؛ يعدو إلى داخل حفرَة وسط الأنقاض؛ بيده مدفع رشاش؛ ومن مكانه يشاهد عدة جنود بشاريين؛ يمسكون بعدد من المقاومين؛ ويمثلون بجثث آخرين؛ وقد صار الحي كثكنة عسكرية.

 يغطي الدرعي الحفرة بأنقاض أثاث وخرَق بالية؛ وهو ينتظر الموت أو الأسر بين لحظة وأخرى؛ يتذكر زوجته وولده الصغير وأمه؛ فتدمع عيناه؛ ثم: أنا ميت؛ ميت؛ لا محالة؛ شئت؛ أم أبيت؛ الآن؛ أم بعد حين؛ فكم سوف أمكث في حفرتي بدون طعام؛ ولا ماء؟. وحتى لو كان معي؛ فهل يكفي حتى تتحرر سوريا من الطاغية؛ فأعود للحياة مرة أخرى؟. وطالما أن الأمر هكذا؛ فإنه أجدر بي أن أموت؛ وأنا ثوري؛ حر؛ يظفر بالشهادة؛ من أن أموت في حفرتي تلك بلا ثمن؛ وهو عار عليّ؛ فأبي إمام مسجد؛ وقد أنشأني قبل وفاته نشأة دينية؛ تستوجب التضحية والفداء.

يحزم الدرعي أمره؛ يأخذ قراره: إن خروجي من الحفرة وأسري؛ أو قتلي؛ لابد أن يكون له ثمن؛ أقتصه من عمر القتلة. وبالفعل؛ يتيمم بالتراب؛ يصلي ركعتين؛ يطمئن نفسه بسكينة من عند الله.

الساعة الواحدة ظهرا؛ يحس بهدوء وصمت مريبين؛ على غير العادة في الساعات الماضية؛ يقرأ الفاتحة والتشهد؛ يدعو الله أن يسترها معه؛ يشرع في الخروج؛ لا يجد صعوبة في ذلك؛ يظهر النور أمامه؛ يتناهى لسمعه أصوات لا يميزها؛ تزداد دقات قلبه اضطراباً؛ تعلن له بأنه على بعد خطوات من الشهادة.

يخرج من وراء الأنقاض؛ يمسك سلاحه بكل قوة؛ يهمس لنفسه: سلاحي هو الأمل؛ العزوة؛ الصديق؛ بعدما تركتني الدنيا؛ وسأتركها أنا بعد حين.

يتملكه ذهول؛ دهشة؛ من هول ما يرى: يا إلهي؛ إنهم جنود برتبة رائد؛ يشهرون أسلحتهم تجاه عدد من المنبطحين أرضاً؛ رجال ونساءً وأطفال.

يتقدم خلف هذا المسرح القتالي.

لا يبعد سوى خمسة أمتار عن ظهور العدو.

يتوقف عقله للحظات؛ وكأن الله قد استجاب لدعائه؛ فأهداه صيده الثمين أمامه؛ لينال منه بكل سهولة؛ وكم بدا سعيداً؛ أن يأت وقوفه أمامه؛ وليس من خلفه؛ أو من فوقه؛ وإلا لتغير الموقف.

في أقل من ثانية؛ يحصد العدو بسلاحه الحبيب.

يتساقط الخونة صرعى؛ بأسرع مما تخيل.

لا يتوقف عن الضرب؛ لكن؛ سلاحه هو الذي يتوقف؛ فقد نفذت ذخيرته؛ وفي ثانية؛ يقوم بتركيب الخزنة الإحتياطية؛ ويعيد الضرب في الجثث؛ رؤوس بعضها تنفصل عن أجسادها.

تنتاب الدرعي نشوة؛ لم ولن تتكرر في حياته؛ يحس أن دماء أحبائه لم تذهب سدى.

يجري المحررون في كل اتجاه؛ أما هو؛ فيتناهى لسمعه صوت محرك دبابة.

 يغادر المكان إلى حفرته؛ يجدها فرصة لتكرار قصاصه؛ وفي الحفرة؛ تنتابه مشاعر متحررة؛ فرحة غامرة؛ ولكن؛ ممزوجة بالحزن على ما يجرى؛ كما لا يشعر بلحظة واحدة من الخوف؛ فمهما يحدث له؛ فقد أخذ بثأر مقدماً؛ وبعد قليل؛ يسمع هدير دبابات؛ وأوامر بلهجة عالية؛ وبلدوزر يجرف الأنقاض؛ فيرى أنه من الحمق استعمال سلاحه هذه المرة؛ فالمكان صار كثكنة عسكرية؛ فيلهمه تفكيره بأن يهيل التراب على سلاحه؛ يخفيه تماماً؛ فبدونه يمكنه إن وقع أسيراً إنكار ارتكابه لتلك المذبحة.

ينتهي من مهمته سريعاً.

يحاول أن يحكم إغلاق حفرته.

 لا يمهله جنديان ينظران إليه من خلالها؛ يقولا له: اطلع يا ولد.

الضابط: أين سلاحك؟.

-أنا بدون سلاح.

صفعة؛ يرى فيها الشرر يتطاير من عينيه ألوان؛ في خيوط متصلة: الجيش الحر بدون سلاح؟.

-إنني من المدنيين.

صفعة: لماذا ارتكبت المذبحة؟.

-أنا لم أخرج من الحفرة أصلاً؟.

صفعة: إذن من فعلها؟.

-أنا سمعت ضرب نار؛ وانا في الحفره.

صفعة: ألم تر أوصاف من قاموا بذلك؟.

-قلت لك؛ لم أخرج من الحفره أصلاً.

صفعة: صدقني؛ سوف نعرف.

يقوموا بتفتيشه؛ فلا يجدوا شيئاً؛ ومن جديد: متزوج؟.

-نعم؛ ولي ولد.

صفعة: وأين هما؟.

-ماتا في القصف.

طلقة؛ يخرس بعدها الذعر الإنساني بعين الأسير: أعيدوه إلى حفرته.

 

 

author-img
عزت عبد العزيز جازي

تعليقات

ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق
    google-playkhamsatmostaqltradent